فقد صرح هذا الوحي
بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين
المسلمين لا مساغ لها ، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في
محاربة الإسلام ، واضطهاد أهله ، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد
الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم ؟ فما الذي أعاد لهذه
الحرمات قداستها فجأة ، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة ؟ لا جرم أن
الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتنى على وقاحة ودعارة .
وبعد ذلك أطلق رسول
الله
سراح الأسيرين وأدى دية المقتول إلى أوليائه .
تلكم
السرايا والغزوات قبل بدر لم يجر في واحدة منها سلب الأموال وقتل
الرجال إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري ،
فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من
الأفاعيل .
وبعد وقوع ما وقع في
سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين ، وتجسد أمامهم الخطر
الحقيقي ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه ، وعلموا أن المدينة
في غاية من التيقظ والتربض ، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية ،
وأن المسلمون يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً ثم
يقتلوا ويأسروا رجالهم ، ويأخذوا أموالهم ، ويرجعوا سالمين غانمين
، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم ،
لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة _ كما
فعلت جهينة وبنو ضمرة _ ازدادوا حقداً وغيظاً ، وصمم صناديدهم
وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل ، من إبادة
المسلمين في عقر دارهم ، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر .
أما
المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش
، في شهر شعبان سنة 2هـ ، وأنزل في ذلك آيات
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 190 ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ( 191 ) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ( 192 ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ثم لم يلبث أن أنزل
الله تعالى آيات من نوع آخر ، يعلم فيها طريقة القتال ، ويحثهم
عليه ، ويبين لهم بعض أحكامه
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ( 4 ) سيهديهم ويصلح بالهم ( 5 ) ويدخلهم الجنة عرفها لهم ( 6 ) يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ثم ذم الله الذين
طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال :
فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت وإيجاب القتال والحض
عليه ، والأمر بالاستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال ، ولو
كان هناك قائد يسير أغوار الظروف لأمر جنده بالاستعداد لجميع
الطوارئ فكيف بالرب العليم المتعال ، فالظروف كانت تقتضي عراكاً
دامياً بين الحق والباطل ، وكانت وقعة سرية عبدالله بن جحش ضربة
قاسية على غيرة المشركين وحميتهم ، آلمتهم ، وتركتهم يتقلبون على
مثل الجمر .
وآيات الأمر بالقتال
تدل بفواحها على قرب العراك الدامي ، وأن النصر والغلبة فيه
للمسلمين نهائياً انظر كيف يأمر الله المسلمين يإخراج المشركين من
حيث أخرجوهم وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأسارى ،
والإثخان في الأرض ، حتى تضع الحرب أوزارها ، هذه كلها إشارة إلى
غلبة المسلمين نهائياً . ولكن ترك كل ذلك مستوراً ، حتى يأتي كل
رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله .
وفي هذه الأيام _ في
شعبان سنة 2هـ / فبراير 624م _ أمر الله تعالى بتحويل القبلة من
بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين
من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين لإثارة البلبلة
انكشفوا عن المسلمين ، ورجعوا إلى ما كانوا عليه ، وهكذا تطهرت
صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة .
وفي تحويل القبلة
إشارة لطيف إلى بداية دور جديد ، لا ينتهي إلا بعد إحتلال المسلمين
هذه القبلة أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم ، وإن
كانت بأيديهم فلا بد من تخليصها يوماً ما .
وبعد هذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين ، واشتدت نزعاتهم
إلى الجهاد في سبيل الله ولقاء العدو في معركة فاصلة .